بسم الله الرحمن الرحيم
من مسالك القرآن لإفراد الله بالدعاء
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فإذا
كان الشرك صرف العبادة لغير الله، فإن من أوضح صوره ومظاهره: دعاء غير
الله. وهل يشك أحد في أن الدعاء عبادة؟ لا إخال هذا؛ فإن الله أمر به في
كتابه، قال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِينَ } [ غافر/60]. وفي السنة نجد قول نبينا صلى الله عليه وسلم:
«الدعاء هو العبادة» رواه أهل السنن.
وقد اتخذ القرآن عددا من الأساليب لئلا تصرف هذه العبادة لغير الله، ومن ذلك:
1/ النهي عن ذلك
قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدً } [الجن/18].
قال
السعدي رحمه الله: "أي: لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة؛ فإن المساجد التي
هي أعظم محال العبادة مبنية على الإخلاص لله، والخضوع لعظمته، والاستكانة
لعزته" (تفسير السعدي، ص890).
2/ الترهيب عن دعاء غير الله تعالى
قال
تعالى: { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ
يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ }
[يونس/106].
وقال: { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [القصص/88].
وقال: { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } [الشعراء/213].
3/ مخاطبة عقول المشركين
وفائدة هذا الأسلوب أنهم ربما ثابوا به إلى رشدهم، وإلا كان مانعاً لغيرهم.
قال
سبحانه: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي
السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ
بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورً }
[فاطر/40]. فإذا كان هذا الذي يُصرف إليه الدعاء لم يخلق شيئاً، ولم يشارك
الله تعالى في الخلق والإيجاد، ولم يأتهم كتاب يأمرهم بعبادة الأوثان، فلا
مُسوِّغ لهذا الشرك . قال السعدي رحمه الله:" فإذا لم يخلقوا شيئاً. ولم
يشركوا الخلق في خلقه فلم عبدتموهم ودعوتموهم مع إقراركم بعجزهم ؟! فانتفى
الدليل العقلي على صحة عبادتهم ودل على بطلانها. ثم ذكر الدليل السمعي
وأنه أيضا منتف. فلهذا قال: { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابً } يتكلم بما
كانوا به يشركون. يأمرهم بالشرك وعبادة الأوثان. { فَهُمْ } في شركهم {
عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ } أي: من ذلك الكتاب الذي نزل عليهم في صحة
الشرك. ليس الأمر كذلك" (تفسير السعدي، ص 691).
4/ بيان عجز المدعوِّين من دون الله
قال
تعالى: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } [الأعراف/197]. وقال: { يَا
أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا
لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } [الحج/73]. والمعنى: ضَعُفَ الطالب
الذي هو المعبود من دون الله أن يستنقذ ما أخذه الذباب منه، وضَعُفَ
المطلوب الذي هو الذباب، فكيف تُتَّخذ هذه الأصنام والأنداد آلهة، وهي
بهذا الهوان؟
وقال: { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ
مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ
كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا
دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } [الرعد/14]. ومعنى هذا المثل:
وما حال المشركين مع آلهتهم إلا كحال عطشان يمد يده إلى الماء من بعيد;
ليصل إلى فمه فلا يصل إليه، فكما أن الماء لا يصل إلى في هذا الظمآن فكذلك
لا يصل نفعٌ من هذه الآله إلى من عبدها لعجزها.
وقال عزَّ اسمُه: {
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ
يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ
يُبْعَثُونَ } [النحل/20-21]. وقال { أموات } لأنها جماد، والجماد ميِّت؛
لأنه لا روح فيه.
وقال: { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ
عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن
كُنتُمْ صَادِقِينَ } [الأعراف/194]. فهؤلاء المعبودون مملوكون لربهم كما
أنكم مملوكون لربكم أيها المشركون، فإن كنتم كما تزعمون صادقين في أنها
تستحق من العبادة شيئًا فادعوهم فليستجيبوا لكم.
وقال: { قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن
شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ* وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ
عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سبأ/22-23]. وهذه الآية من أقوى
الأدلة العقلية لردع المشركين الداعين غيرَ الله تعالى؛ فالله يخبر عن هذه
الآلهة التي تدعى من أنها لا تملك شيئاً في السماوات ولا في الأرض،
والذرة: وزن النملة، وليس لها شراكة مع الله في ملك السماوات والأرض وما
بينهما فالكل لله، وليس للآلهة أسهم أو نصيب أو نسبة مع الله في هذا الكون
الذي يملكه. وعندما خلق الله الكون لم يعاونه أحد، فهذه الآلهة لم تشيد
شيئا من هذا الكون مع الله، فالظهير: المعين. فلما نفى الله ذلك كله بقي
الشفاعة التي ربما تشبث بها المشركون فقالوا: هذه الآلهة تشفع لنا عند
الله، فجاء نفيها بقوله: { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا
لِمَنْ أَذِنَ } ، فبين الله أنه لا شفاعة لهؤلاء، والشفاعة كلها لله.
وقال: { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيل } [الإسراء/56].
ويندرج تحت قول الله تعالى: { ولا تحويل } معنيان:
الأول: لا تملِك هذه الآلهة أن تحوله إلى غيركم.
الثاني:
لا تملك تحويله من حال إلى أخرى، فلا تحول مرضكم إلى عافية، ولا فقركم إلى
غنى، ولا ضيقكم إلى سعة، ولا ذُلَّكم إلى عز. فإذا تقرر هذا فما الفائدة
من دعائهم؟
وقال: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ
مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن
دُعَائِهِمْ غَافِلُون* وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء
وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف/5-6].
فإذا استبان
عجزهم كان دعاؤهم سفهاً. ولذا دلّ القرآن على أن الشرك جريمة لا يقع فيها
إلا السفهاء. قال تعالى: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ
إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [البقرة/130]. وملته التوحيد. فمن رغب عنها
فهو سفيه.
5/ بيان أنّ الكفار والمشركين كانوا يلجئون إلى الله إذا ادلهمت الخطوب، ووقعوا في الكروب
وهذا
مسلك قرآني يخاطب عقولهم. إذ لو كانت آلهتهم كما يقولون لما تركوها حال
كربهم ولجئوا إلى الله تعالى. فالذي يُلجأ إليه في الكرب قادر عليه وعلى
ما دونه. قال تعالى: { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ
يُشْرِكُونَ } [العنكبوت/65].
وقال: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ
الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ
مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ *
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } [الأعراف/133-134]. أي: بما أوحى به إليك
مِن رَفْع العذاب بالتوبة. فأين فرعون الذي عبدتموه من دون الله؟
ومع
ذلك فإنَّ بعضَ المشركين لا يعرفون الله لا في حال الرخاء ولا في حال
الشدة. فهؤلاء في ظلمات مركبة، ولهذا ذم الله هؤلاء بهذا زيادة على ذمهم
بشركهم.. قال تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ
فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ
* فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ
قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
[الأنعام/42-43]. وقال: { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا
اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } [المؤمنون/76]. ألا
بؤساً لمن يعرض عن ربه حال كربه وعنائه.
6/ دعاء الأنبياء دليل على أنَّ جميع العباد محتاجون إلى الله، ولو كان أحد يملك لنفسه نفعاً أو ضراً لكان الأنبياء أولى بذلك:
قال
ربنا: { كهيعص* ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا* إِذْ نَادَى
رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا* قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّ }
[مريم/1-4].
وقال عن نوح عليه السلام: { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي
مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ } [القمر/10]. وقال عن كوكبة منهم: { وَأَيُّوبَ
إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ
وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا
وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ
كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم
مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن
لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ
إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ *
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي
الْمُؤْمِنِينَ * وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي
فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا
لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ
فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا
خَاشِعِينَ } [الأنبياء/83-90].
وفي قوله: { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا
وَرَهَبً } دليل على أن الله تعالى يعبد ويدعى خوفا وطمعاً، فالمعنى:
يدعوننا راغبين فيما عندنا، خائفين من عقوبتنا.
وبهذا بان لنا أن دعاء غير الله ضلال وباطل..
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ } [الحج/62].
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ } [لقمان/30].